سبب نزول سورة الممتحنة

سورة الممتحنة هي من السور المدنية التي نزلت في فترة متقدمة من مرحلة الدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتحمل في طياتها العديد من الأحكام الفقهية والتوجيهات الاجتماعية والسياسية التي كان لها أثر بالغ في تنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الإسلام. من هنا، فإن معرفة سبب نزول هذه السورة يفتح لنا نافذة لفهم السياق التاريخي الذي نزلت فيه، والأحداث التي استدعت التشريع القرآني الوارد فيها، بالإضافة إلى الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي تناولتها.

الخلفية التاريخية لسورة الممتحنة

كانت العلاقة بين المسلمين وقبائل العرب وغيرهم من الأمم في حالة توتر دائم في فترة البعثة، خصوصاً بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة. فالمسلمون في المدينة أصبحوا يشكلون دولة ناشئة تواجه تحالفات متعددة ضدها، سواء من المشركين في مكة أو بعض القبائل المحيطة التي كانت تهادن أو تعادي. وفي هذا الإطار، برزت الحاجة إلى تنظيم العلاقات بين المسلمين وغيرهم في مواضيع مثل العداوة والولاء والبراءة.

في هذه المرحلة، برزت قضية اختبار المهاجرين الذين كانوا على دين الإسلام من غير المسلمين الذين يظهرون تعاطفاً مع المسلمين، أو من النساء اللاتي يرغبن في الدخول في الإسلام أو في حلف المسلمين. وكان هناك العديد من الحالات التي ظهرت فيها خلافات حول الولاء، وطرق التعامل مع المشركين الذين يُعتقد أنهم يعادون الإسلام أو الذين يرغبون في التحالف مع المسلمين.

سبب النزول الأساسي لسورة الممتحنة

يرجع سبب نزول سورة الممتحنة إلى حادثة وقعت في المدينة المنورة حيث جاءت مجموعة من النساء إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم يرغبن في الدخول في الإسلام، لكن كان من الضروري اختبار إخلاصهن وولائهن للإسلام والمسلمين، خصوصاً في ظل وجود خطر جيوسياسي. فتحت هذا السياق نزلت هذه السورة لتحدد الأحكام الشرعية المتعلقة بفحص الإيمان والولاء، وحث المسلمين على عدم عقد المودة والولاء مع المشركين الذين يعادونهم، مع إبراز الحكمة في التعامل معهم.

تشير الروايات التاريخية إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختبر هؤلاء النساء اللاتي يرين الدخول في الإسلام، ليتم التأكد من إيمانهن الحقيقي وولائهن للرسول والمسلمين. فالسورة جاءت لتضع إطاراً شرعياً واضحاً لهذا الاختبار، بالإضافة إلى توجيهات في التعامل مع المشركين، سواء من الناحية الاجتماعية أو السياسية.

مضامين سورة الممتحنة

تتناول سورة الممتحنة عدة موضوعات محورية تمثل استمراراً لتوجيهات القرآن في بناء مجتمع إسلامي متماسك ومحصن من الداخل، قادر على مواجهة الضغوط الخارجية.

1. اختبار الإيمان والولاء

في مطلع السورة، يأمر الله تعالى المؤمنين بأن يختبروا النساء اللاتي يردن الدخول في الإسلام، ليكون هناك يقين في ولائهن وعدم خيانتهن للمسلمين، ويشدد على أن ولاء المؤمنين يجب أن يكون لله ورسوله وللمؤمنين، وليس للمشركين الذين يعادونهم.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1]

يبرز هذا التوجيه أهمية الولاء والانتماء الحقيقي، وعدم التفريط فيه لمجرد المودة الاجتماعية أو المصالح الدنيوية.

2. حرمة الزواج من المشركين

من الأحكام التي وردت في السورة: تحريم الزواج من المشركين بعد الإسلام، باعتبار أن الإيمان هو العامل الحاسم في تماسك الأسرة والمجتمع الإسلامي، وذلك لمنع الاختلاط الذي قد يهدد وحدة المجتمع وتماسكه.

{وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [الممتحنة: 10]

هذا الحكم يعكس حرص الإسلام على استقرار الأسرة المسلمة عبر توحيد العقيدة والمبادئ.

3. تحريم الولاء للأعداء

تؤكد السورة على ضرورة عدم إقامة المودة أو الولاء مع أعداء الإسلام، خاصة أولئك الذين يعملون على الإضرار بالمسلمين، وهذا أمر استراتيجي لضمان سلامة الدولة الوليدة.

4. حقوق المرأة في الهجرة

تضمنت السورة توجيهات تخص النساء اللواتي هاجرن من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وكيفية تعامل المسلمين معهن في حال تركن زوجات كفار، وإعطاءهن الأمان والحرية في اختيار مصيرهن.

تأثير سورة الممتحنة في التشريع الإسلامي

كانت سورة الممتحنة محطة مهمة في التشريع الإسلامي، حيث رسخت مفاهيم الولاء والبراءة، وأكدت على ضرورة التمسك بالعقيدة الإسلامية الحقة في العلاقات الاجتماعية والسياسية، مع التمييز الواضح بين المودة المحرمة التي تؤدي إلى خيانة الدين، والمودة المشروعة التي تبنى على أسس إيمانية.

الجدول التالي يوضح أهم الأحكام التي وردت في سورة الممتحنة وتأثيرها في التشريع:

سياق السورة في السياسة الإسلامية

تعكس سورة الممتحنة بوضوح الصراع السياسي والاجتماعي الذي كان يعايشه المسلمون في المدينة، إذ كانت مواجهة القوى المعادية تتطلب وضوحاً في الولاء والبراءة، وهو ما تجلى في التشديد على عدم اتخاذ أعداء الله وأعداء المسلمين كأصدقاء أو حلفاء.

كما توجهت السورة لتوفير بيئة سليمة لتماسك المجتمع المسلم داخلياً، بالتركيز على الولاء للدين والرسول، وهو أمر ضروري في بناء دولة قوية تحمي مصالح أتباعها.

الخاتمة

سورة الممتحنة جاءت نتيجة ظروف تاريخية وسياسية واجتماعية معقدة مرت بها الأمة الإسلامية في بداياتها. كانت تهدف إلى وضع معايير دقيقة لفهم الولاء الحقيقي، وضمان عدم اختلاط مصالح المسلمين بأعدائهم، سواء في العلاقات الاجتماعية أو السياسية. كما قدمت توجيهات واضحة في التعامل مع النساء اللاتي يرغبن في الدخول في الإسلام، وضمنت لهن حقوقاً تراعى في إطار الهجرة والمجتمع الإسلامي.

من هذا المنطلق، تعتبر سورة الممتحنة سورة تشريعية هامة أسست لركائز متينة في بناء المجتمع الإسلامي من حيث الولاء، والحفاظ على وحدة العقيدة، والتنظيم الاجتماعي والسياسي في مواجهة التحديات الخارجية. ولا تزال مضامينها حية ومؤثرة في فهم العلاقات بين المسلمين وغيرهم، خاصة في أزمنة الصراع الفكري والسياسي.

المراجع:

• تفسير ابن كثير، دار الفكر، 2004

• الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن، دار الفكر، 2002